فمنذ عام 2011، عمد صناع القرار إلى سن قوانين تحظر تغطية الوجه في كثير من الدول الأوروبية، من بينها بلجيكا، وبلغاريا، والدانمرك، وفرنسا، وهولندا. وكان الهدف المقصود من وراء هذه القوانين إنما هو النساء المسلمات اللاتي يرتدين النقاب الذي يسميه الكثيرون خطأ “البرقع”.
وقد جاء إصدار تلك القوانين في أعقاب جدالات تطرح قضية ارتداء النقاب على أنها مسألة إشكالية؛ وهذا “الجدل” العام، الذين يكون مشحوناً سياسياً في الكثير من الأحيان، أفرز قوانين تنطوي على التمييز المجحف، يقف وراءها تحالف آثم من غلاة اليمين الشعبوي وقطاعات من الحركة النسوية والعلمانيين.
تحظر تغطية الوجه في كثير من الدول الأوروبية، من بينها بلجيكا، وبلغاريا، والدانمرك، وفرنسا، وهولندا.
وانخرط أرفع المسؤولين الحكوميين في تلك الدول في سباق إلى القاع، يتبارون فيه على إطلاق أشد التصريحات إجحافاً.
ففي أغسطس/آب 2019، شبّه رئيس الوزراء البريطاني المنقبات بـ”صناديق البريد” و”لصوص البنوك”؛ ولم يعتذر عن هذه التصريحات إلا بعد مضي أكثر من ثلاثة أشهر. وأفادت المنظمة غير الحكومية المعروفة باسم “تِل ماما” أن حوادث الكراهية للإسلام والمسلمين تصاعدت بنسبة 375% في المملكة المتحدة خلال الأسابيع الثلاثة التي أعقبت هذه التصريحات.
ومن المخيب للآمال أن بعض المحاكم قد أقرت تلك القوانين؛ فقد أصدرت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان حكماً مربكاً أفتت فيه بأن ارتداء النقاب يقوض مفهوم “العيش المشترك”. وما من قانون من قوانين حقوق الإنسان يجيز للدول اتخاذ فكرة “العيش المشترك” معياراً مقبولاً للتضييق على الحق في حرية التعبير والدين أو المعتقد. وتصوير النقاب على أنه خطر يهدد الأمن أو رمز لاضطهاد المرأة مشبع بأنماط فكرية تمييزية متأصلة في النظرة الإقصائية للنساء المسلمات باعتبارهن ضمن “الآخر” الغريب عن المجتمع بسبب دينهن. كما أن حظر ارتداء النقاب يُعدّ بمثابة تقييد مفرط للحقوق الإنسانية لأقلية كثيراً ما يُعرَّفُ موقعها في المجتمع من منظور ينطوي على التمييز المجحف والعنصرية.
وألقى المسؤولون الحكوميون في روع الجمهور انطباعاً بأن ثمة جحافل من المتظاهرين يرتدون ثياباً وأقنعة سوداء في البلاد، يلجأون بانتظام إلى تحطيم البنوك والمحلات التجارية. غير أن ارتداء الأقنعة أمر ضروري في البلدان التي تسود فيها بواعث قلق مشروعة بشأن استخدام تكنولوجيا التعرف على الهوية من ملامح الوجه. والسعي لحماية النظام العام لا يجيز فرض حظر شامل جارف على ارتداء أقنعة الوجه في أي مظاهرة، بغض الطرف عن الأخطار الملموسة التي تشكلها على النظام العام. ومثل هذا الحظر الشامل هو تقييد مفرط لحق الإنسان في حرية التجمع السلمي وفي حرية التعبير.
إن الصورات الاجتماعية والثقافية قابلة للتغير على مر الزمن؛ ولقد رأينا كيف عرقلها وباء فيروس كوفيد-19.
وتفسيرنا لأي تقاليد أو أعراف أو سلوكيات محددة كثيراً ما يكون قائماً على أسس وتصورات اجتماعية وثقافية. والتحامل على الآخرين، ووضعهم في قوالب نمطية جامدة، والنظرة الإقصائية إليهم باعتبارهم ضمن فئة “الآخر” الغريب عن المجتمع – كل هذه عوامل كثيراً ما تسهم في تصورنا لممارسات محددة. وقد قامت الحكومات، وقطاعات واسعة من المجتمع في كثير من البلدان، بتصوير النقاب، وتغطية الوجه بشكل أعم، على أنهما خطر يهدد الأمن، و/أو مظهر من مظاهر عدم المساواة على أساس النوع الاجتماعي؛ وطرحت تفسيراتها هذه وكأنها عقائد جازمة.
غير أن هذه التأويلات ليست سوى تصورات اجتماعية وثقافية قابلة للتغير على مر الزمن؛ ولقد رأينا كيف عرقلها وباء فيروس كوفيد-19. ويجب على صناع السياسات اغتنام هذه الفرصة السانحة لنبذ القوانين التي تحظر ارتداء النقاب، وتفرض حظراً شاملاً على ارتداء الأقنعة والكمامات أثناء المظاهرات. أما الخيار الآخر فهو إجبار الناس على ارتداء كمامات الوجه لمكافحة العدوى بمرض كوفيد-19، في الوقت الذي تُفرض فيه الغرامات على النساء اللاتي يرتدين النقاب أو المتظاهرين الذين يغطون وجوههم. ولا ينبغي أن يخفى علينا ما في ذلك الموقف من المفارقة الساخرة والنفاق والتمييز المجحف؛ فهل كمامة الوجه التي يرتديها المرء لمكافحة العدوى بالفيروس تختلف حقاً عن النقاب؟.
رأي ماركو بيروليني، الباحث الإقليمي في قسم أوروبا بمنظمة العفو الدولية . نشر المقال في موقع منظمة العفو الدولية.